الجمعة، 17 يوليو 2015

سوريا رحلة الألم على طريق الأمل


كان يوم السابع من يوليو الجاري ، فصل جديد من فصول المأساة الطويلة التي يعيشها الشعب السوري مع بداية انطلاق الثورة السورية ضد نظام الأسد في منتصف مارس 2011 .
ففي هذا اليوم عزمت الانطلاق نحو اليونان ، كأحد أهم المحطات الرئيسية في رحلة الشتات والتيه التي كنت قد بدأتها من سوريا إلى مصر قبل تسع سنوات ، وها هو اليوم تتكرر رحلة الشتات من جديد ولكن هذه المرة نحو اليونان ، كمحطة أولى ، تليها محطات أخرى سأكتب عنها بكل أحداثها وتفاصيلها .
فبعد استنفاذ كل السبل والطرق في السفر القانوني نحو أوروبا ، نتيجة مماطلة بعض الدول بسبب البيروقراطية والروتين وعدم تقديرها الإنساني لحالتي كناشط سياسي وإعلامي معارض لنظام الأسد الديكتاتوري ، وبعد أن ماطلت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في القاهرة في تحريك ملفي لديها نحو الدول الكبرى التي تستقبل طلبات توطين الناشطين والمعارضين السياسيين ، قررت السير في الخيار الأخير ، بكل ما يحمله من أوجاع ومتاعب ومخاطر ، لأقاسم الشعب السوري مأساته ومتاعبه ولأشاركه رحلة الشتات والألم ، ولأشعر بآلام أطفال سوريا التي يخفق قلبها خوفا وجزعا ، أثناء الإبحار فوق أمواج البحر بعد أن خفقت قلوبهم رعبا من الصواريخ والقنابل وبراميل بشار الأسد التي دمرت بيوتهم وحطمت أحلام براءتهم .
في هذا اليوم العصيب كنت واحد من المواطنين السوريين الهاربين من جحيم المحرقة الأسدية ، وأسقطت عن نفسي كل الأوسمة والرتب والشهادات ، وقررت أن أكون واحدا من اللاجئين السوريين أقودهم نحو الأمل ويقودونني نحو الألم كما قاد موسى شعب إسرائيل قبل آلاف السنين من العبودية إلى الحرية .
الشعب السوري في محنته ومأساته أصبح كالجريح الذي يحتاج لمن يضمد جراحه ويحرص على رفع معنوياته بالخلاص والانعتاق من الظلم والقهر ، فلم يدع وسيلة للهروب من المحرقة الأسدية والجحيم الأسود ، إلا واستخدمها سواء بالبحر المتوسط أو مشيا بالغابات لمسافات طويلة أو باللجوء نحو بلدان الجوار السوري .
بدأت رحلة الألم من مدينة استانبول إلى مدينة أزمير على شواطئ بحر إيجه المحاذي للجزر اليونانية ، استغرق الطريق من اسطنبول لأزمير في الاتوبيس حوالي 10 ساعات ، وعند الوصول لأزمير ، بدت حشود اللاجئين السوريين تملأ ساحات وطرقات المدينة التي لم يكن يعرفها إلا القلائل من الشعب السوري قبل بدء الحرب .
عند الوصول لأزمير توجهت إلى ساحة ميدان بصمني الذي يقع في وسط المدينة القديمة بأحيائها العتيقة ، والتي اكتظت فنادقها الشعبية بآلاف اللاجئين السوريين الذين ينوون الانطلاق نحو اليونان .
فضلا عن وجود المقاهي والمطاعم التركية التي تحولت بشكل آلي لمطاعم سورية بواجباتها السريعة التي تقدمها للاجئين السوريين على عجل لاستمرار تدفقهم اليومي نحو ميدان بصمني .
بعد الوصول إلى ميدان بصمني بدقائق قليلة ، بدأت رحلة البحث عن سمسار أمين أو ما يعرف بين اللاجئين باسم (المهرب ) وغالبا ما يكون هؤلاء السماسرة من الشباب السوريين الذين يعملون لدى السماسرة الأتراك الذين يسهلون لهم إجراءات ووسائل التهريب عبر البحر مقابل مبالغ مالية ضخمة يقدمها اللاجئين السوريين .
ما أن جلست في المقهى حتى تكاثر السماسرة السوريين من حولي ، يعرضون خدمات التهريب السريع عبر البحر ، كنت حذرا في التعامل معهم لناحية وفائهم بعدم سرقة المبلغ الذي سأضعه لديهم بشكل مباشر ومن دون ضمانات أو سندات قانونية مكتوبة ، ولجهة وفائهم بتنفيذ الرحلة في وقتها المحدد وعدم التهرب من تنفيذها بحجج واهية ،كما يحصل مع الكثير من اللاجئين السوريين الذين يفقدون أموالهم ووقتهم مع هؤلاء السماسرة بلا طائل .
وباعتبار كوني شخصية إعلامية وسياسية يعرفها الكثير من أبناء الشعب السوري والشعوب العربية ، سواء الذين يؤيدون الثورة أو الذين يعارضونها ويقفون مع نظام الأسد ، لم يكن صعبا على السمسار أبو خليل من التعرف علي مباشرة ، لابل أنه تفاجأ عندما عرف أنني أنوي الخروج عبر البحر نحو اليونان ، فكان التعامل بيننا بمنتهى الجدية والالتزام بالوقت .

وبعد الاتفاق على كل ترتيبات الخروج بالبحر مع السمسار ، أشار لي بضرورة شراء معدات الخروج لضامن أمني وسلامتي في حال تعرض القارب المطاطي ( البلم ) لموجة عاتية أو للغرق في عرض البحر ، فلم يكن أمامي سوى الذهاب إلى محل بيع رداء النجاة ( طوافات ) وشراء عجلة هوائية التي يشتريها جميع اللاجئين السوريين في كل رحلاتهم بالبحر .
جلست انتظر في مقهى السندباد من ظهيرة يوم السابع من يوليو حتى مساء اليوم نفسه، انتظرت إشارة التحرك من أبو خليل ، وكان المقهى الشعبي قديما جدا ، يعج باللاجئين والمغادرين السوريين من الشباب والرجال كما لو كان هذا المقهى مطارا دوليا .
شعرت خلال مكوثي الطويل بالمقهى بالتعب والنعس والإرهاق الشديد والملل من طول وقت الانتظار ، الذي توزع بين السفر الأول من استانبول لأزمير والسفر الثاني من شواطئ أزمير إلى جزر اليونان ، فكان يوما شاقا طويلا لم تعرف فيه عيناي النوم لحظة واحدة .
استسلمت للنوم في المقهى ثلاث مرات ، رغم الضوضاء والضجيج والحر الشديد لكثرة الزبائن اللاجئين ، وخلال هذا الوقت الطويل تعرف إلي الكثير من اللاجئين السوريين ، وكان كل لاجئ يحمل على ظهره حقيبة صغيرة تحتوي على لباس داخلي وخارجي وأوراق ثبوتية قانونية لإثبات الشخصية أم السلطات الأوروبية .
وما أن هبط الليل وحل الظلام ، حتى وصلتني إشارة البدء من السمسار أن اتجهز للانطلاق مع اصدقائي نحو الرحلة المرتقبة ، انتظرنا وصول السمسار بضع دقائق وعند وصوله غادرنا المقهى بالمشي سيرا على الأقدام لمسافة 3 كليومتر وبشكل متباعد بين كل شخص و آخر ، حتى لا نلفت انتباه السلطات التركية ، رغم أن جميع السكان الاتراك يعرفون أننا لاجئين سوريين ، وصلنا إلى كورنيش مدينة أزمير المطل على شاطئ بحر ايجه ، أجلسنا السمسار على مقاعد الشاطئ على شكل مجموعات كل مجموعة تضم خمسة أشخاص ، وقال علينا انتظار قدوم السيارات بعد حوالي نصف ساعة كحد أقصى، وما أن وصلت السيارات حتى طلب منا السمسار بالصعود إليها ، وأخبرنا أن دوره انتهى عند هذه المرحلة وسيبدأ دور زملائه السماسرة الأتراك في المحطات القادمة كل بحسب اختصاصه.
صعدنا في أربعة سيارات سياحية حديثة ، وكان عدد كل مجموعة 5 أشخاص ، وانطلقت بنا السيارات بشكل عاجل نحو غابة كبيرة في أطراف مدينة أزمير .
وعند وصولنا للغابة التي بدت مظلمة بشكل كامل ولا يوجد فيها أي حركة سير أو مرور ، ولا يصل إليها إشارة بث من أبراج الاتصالات الخليوية وأصبحنا معزولين عن العالم الخارجي بشكل كامل .
نزلنا من السيارات للغابة المعتمة ، وبدأ بعض السماسرة الاتراك الذين استقبلوننا بغضب شديد في منتصف الغابة بالصراخ بأعلى صوتهم على اللاجئين السوريين وظهرت رعونتهم بشكل كبير علينا ، طلبوا منا السير في الغابة والصعود لسفح الجبل والجلوس بين أحراش الأشجار لبعض الوقت .
جلسنا ننتظر بين الأشجار ، وبدا كل شيء من حولنا هادئا ، كان الهواء باردا جدا كما لو كنا في فصل الشتاء ، وعندما طال وقت الانتظار في الغابة لمدة اربع ساعات ، استلقى الكثير من اللاجئين والأطفال على ظهورهم وافترشوا الأرض والتحفوا السماء .
نام اللاجئين على سفح جبل الغابة من شدة التعب والإرهاق ، ولم يكن بمقدوري سوى النوم والاستلقاء على الظهر ، وعند الاستلقاء كان منظر النجوم والقمر في صفحة السماء رائعا جدا ، وبدأت أفكر بالمصاعب التي تنتظرني في اليوم التالي ، وبزوجتي وأطفالي الصغار الذين تركتهم في القاهرة، بعد أن خرجت منها مكرها مرغما، بعد أن أقمت فيها في رحلة الشتات الأولى تسع سنوات نتيجة الضغوط السياسية وتغير المزاج المصري تجاه الثورة السورية ورهانه الخاطئ على نظام الاسد في الوقت الضائع .
مرت الساعات الأربع في الغابة بشكل طويل جدا ، لكثرة التفكير والقلق الذي كان يساورني في حال فشل الرحلة والعواقب المترتبة عليها ماديا ونفسيا ، فهذه آخرمحاولة وآخر خيار بعد أن أغلقت كل الأبواب .
قبل طلوع الفجر بلحظات قليلة ، وصل إلينا سمسار سوري وآخر تركي ، أخبرونا بالاستعداد للانطلاق نحو نقطة الخروج بالبحر ، استيقظ اللاجئون من نومهم وحملوا حقائبهم على ظهورهم واصطفوا في رتل طويل كما طلب السمسار ، وكان عدد اللاجئين أربعين لاجئا من الرجال والنساء وخمسة عشر طفلا ، انتظرنا بضعة دقائق نتفقد بعضنا في عتمة الليل ، وبعدها أبلغنا السمسار أننا جاهزون للانطلاق .
فتح السمسار باب الحافلة المغلقة وطلب منا الصعود إلى الحافلة بسرعة ، كانت الحافلة عبارة عن سيارة نقل مغلقة تشبه سيارة الإسعاف طولها ثلاثة أمتارونصف وعرضها مترين ، طلب المهرب من النساء والأطفال بالصعود أولا وبعد ذلك صعد الرجال ، تجمعنا داخل الحافلة التي لا تتسع لأكثر من عشرين شخص بأحسن الأحوال ، وهي مخصصة أصلا لنقل البضائع وليست مخصصة لنقل الأفراد ، أغلق باب الحافلة بعصبية زائدة ، كنا متكدسين داخل صندوق الحافلة ، كان الصندوق ضيق جدا ومعتم ولم يكن داخل الصندوق سوى نافذة صغيرة للتنفس أعلى سقف الصندوق .
انطلقت الحافلة بسرعة كبيرة في طرقات وعرة لبعض الوقت وبعدها بقليل انتقلت لطريق معبد بالإسفلت ، لم نكن نشاهد الطريق لأن الرؤية كانت محجوبة عنا ، لكننا كنا نشعر بالطريق من كثرة المطبات التي كنا نتلقاها داخل الحافلة .
خلال سير الحافلة من الغابة إلى نقطة الخروج بالبحر الذي استغرق حوالي ساعتين ونصف ، أصيب الكثير من الشباب والاطفال والنساء بالدوار والغثيان والتقيؤ نتيجة الحر الشديد ونقص الاوكسجين داخل الصندوق ، بدأ الشباب من حوالي يتساقطون واحدا تلو الآخر ، كما لو كانوا أحجارا على رقعة الدومينو المتساقط ، بقيت صامدا مع القليل من الشباب الذين يتمتعون ببنية قوية ، قمنا بإسعاف المصابين داخلالصندوق من خلال رفعهم للأعلى نحو النافذة الهوائية أعلى سقف الصندوق أو من خلال رشالماء على وجوههم وإعطائهم قليلا من الماء للشرب واستعادة توازنهم المفقود .
لم يكن سائق الحافلة التركيالذي يعمل مع شبكات التهريب يستجيب لندائنا بالتوقف وفتح باب الصندوق للتهوية والتقاط اللاجئين لأنفاسهم وجعلهم يستريحون قليلا من التعب في أضلاعهم وعظامهم التي تربعت من التكدس الشديد .
بدأ صراخ اللاجئين يعلو داخل الحافلة فما كان من السائق التركي إلا أن أوقف الحافلة ، ظننا للوهلة الأولى أننا وصلنا للنقطة ، فرحنا كثيرا ، لكن فرحتنا لم تدم طويلا ، حتى فتح السائق باب الصندوق وقال بغضب شديد ، اسكتوا واصمتوا ولا أريد أن اسمع ضجيجكم وأصواتكم داخل الصندوق ، لأنني سأمر من مكان قريب من وجود الجندرما ( قوات حرس الحدود التركي ) وإذا لم تصمتوا سيمنعنا الجندرما من المرور ، كنت قريبا من باب الصندوق ، وبدا الكلام موجها إلي بشكل مباشر ، فأومأت برأسي للسائق أننا موافق لكلامه .
انطلق السائق مسرعا بشكل جنوني ، وبعد حوالي 20 دقيقة وصلنا إلى النقطة المطلوبة ، نزل السائق من الحافلة ، وفتح باب الصندوق ، وطلب منا النزول بسرعة ، نزلنا نلتقط أنفاسنا من شدة التعب والإرهاق ، ثم أشار لنا النزول بسرعة سيرا على الأقدام في وداي عميق في نهايته توجد نقطة الخروج على البحر .
سرنا في وادي عميق ، وهو عبارة عن مجرى نهر جفت مياهه وانقطع جريانه ، وبدا أنه كان يصب سابقا في البحر ، وكان يحيط بالوادي العميق هضاب جبلية مكتظة بالأشجار والنباتات .
بعد حوالي عشر دقائق من سيرنا في الوادي ، ظهرت لنا مياه البحر وقبالتنا ظهرت جبال جزيرة كيوس اليونانية على بعدحوالي عشرين كيلو مترا .
عند وصولنا للنقطة المطلوبة ، ظهر لنا السماسرة الاتراك يقومون بنفخ القارب المطاطي وتجهيز محركه لنقلنا إلى جزيرة كيوس ، طلب السمسار منا الجلوس أرضنا بين حرش الأشجار المحاذية لمياه البحر ،  وعدم الوقف لئلا نكشف أنفسنا لقوات الجندرما التركية ، بدأنا بتجهيز أنفسنا وقمنا بارتداء طوافات الانقاذ وتجهيز العجلات الهوائية للأطفال .
 عندما أصبح القارب المطاطي جاهزا بعد دقائق قليلة وأصبحنا على أتم الاستعداد للانطلاق خلال زمن قصير ، بدءنا بالصعود سريعا على متن القارب المطاطي ،  لتبدأ رحلة الألم نحو الأمل ، رحلة الخوف والهروب من الجحيم التي سأسرد تفاصيلها في الحلقة القادمة بكل أحداثها وتفاصيلها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق